ترسّخ في أذهاننا أنه في حال تمّت الإطاحة بنظام أي دولة أو تم تغيير حكومتها فإن حُلم الشعب العربي بـ وطنٍ مستقرٍ وآمن يمنح الحقوق كاملة لشعبه سيتحقّق بلا أدنى شك

إلّا أن الواقع يُقدم لنا أحداثاً ومواقفَ عكس ما حلمنا به! فهل يختلف واقع العراق (الاقتصادي خصوصاً) عن الحلم الذي عشناه ولا زلنا نعيشه منذ عام ٢٠٠٣ وحتى هذه اللحظة؟!

في الحقيقة، إن واقع العراق الاقتصادي ومنذ عقدين كاملين يتجسد في انهيارات اقتصادية مستمرة، نتيجةَ الفساد الذي تفشّى في البلاد بأكملها مع ولادة العصابات الإرهابية والميليشيات المُسلّحة، إلى جانب وقوعها تحت تحكم القوتين الأمريكية والإيرانية وتعاقب الحكومات المتعددة عليها؛ والتي تنافست ولا تزال على فرض القوانين العشوائية وإهدار موارد الوطن وثرواته الطبيعية من النفط والغاز ونهري دجلة والفرات دون خطة استراتيجية واضحة المعالم تُنمّي الاقتصاد وتخدم الشعب.

وحتّى الآن فإن واقع الحال لم يتغيّر للأسوأ فحسب! إنّما بات ينهار رويداً رويداً.. ومن أين نبدأ؟!

هل نبدأ بعجز الموازنة السنوية التي وضعت العراق تحت الديون الخارجية؟ والذي كان سببها الأساسي الزيادة السنوية (المفترضة) في أسعار النفط! مما أدّى بالحكومة لاتخاذ قرارات متخبطة واستغلال ريع النفط في التوظيف العشوائي في القطاع الحكومي؟ والذي تطلّب كل عام موازنة ضخمة لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين؟ إلى جانب الفساد المتعلق بالموظفين الفضائيين والوهميين والذين كان لهم حصة لا تقل عن ٢٠٪ من هذه الميزانية.. ولن ننسى خرّيجي الجامعات الذين باتوا يعانون من بطالة قاسية ولا يجدون لهم مكاناً للعمل في مؤسسات الدولة، وهنا نتطرق إلى أهمية توظيف القطاع الخاص كـ داعمٍ أساسي للقطاع الحكومي؛ فماذا -على سبيل المثال- لو تمّ استغلال ثروة الغاز الطبيعي المصاحب للنفط بدلاً من حرقه وأُنشِئت المشاريع والشركات الخاصة لإدارته وتشغيله بأيدي أبناء الشعب.. أليسَ هذا الاستغلال كان سيمنحَ الفرصة لتوفير فرص العمل لأبناء العراق؟ بدلاً من أن يقوموا بتوجيه طاقاتهم في الاعتصامات والاحتجاجات مطالبةً بـ أدنى حقوقهم بالتوظيف!

لو افترضنا أنّ قطاع التوظيف يحتاج لبنية تحتية وتكلفة مرتفعة جداً، لماذا لا يتم منح البعثات التعليمية استثمار المتفوقين وأصحاب العقول من خلال منحهم البعثات التعليمية وإرسالهم للخارج ليعودوا للوطن بشهاداتهم وعقولهم النيّرة وتوظيف خبراتهم في بناء الوطن؟

لا تقتصر المشاهد السيئة منذ عام ٢٠٠٣ على قطاع الاقتصاد والتعليم والتوظيف، ولكن حتّى المشهد الاجتماعي بات غير مقبولاً والمستوى المتدنّي الذي يعيش فيه الشعب دفعهم لاتخاذ قراراتٍ جريئة بترك الوطن والانتقال إلى الدول المجاورة أو طلب الهجرة إلى الدول التي تمنح الحقوق الإنسانية البسيطة لمواطنيها والمقيمين عليها؛ خصوصاً بعد تفشي الفقر والأمية بين أفراد الشعب! وهل يعقل أن يعاني شعبٌ من شح المياه وأزمة كهرباء في دولة تعتبر غنية بهذه الموارد الطبيعية؟

وإذا استمر هذا الوضع فإن العراق سيكون مرتعاً للفاسدين أكثر من قبل! وتحكّم الأحزاب الطائفية في ثرواته، وتسلط الميليشيات وأصحاب السلاح المتفلّت على الشعب، وتصاعد حالات القتل والاغتيالات العشوائية لأبنائنا من الناشطين والصحفيين وأبناء الكلمة الحرة.. إلى جانب تدخل الدول الخارجية ومحاولاتها في التحكم بالثروات الطبيعية.

وتدهور المشهد الاجتماعي ناتج عن تردّي المشهد السياسي ولعلّ أبرزها الدورات البرلمانية التي لا تزال تُعاني من الفساد المتعلق بالتزوير وقوانين ُتفرض تحت مبرّر النزاهة والعدالة! ليسيطر مشهد الاغتيالات المتكرر قبل موعد الانتخابات في كل مرة، وقد يحرم العديد من ممارسة حقهم في الانتخابات، إلى جانب عدم طرح الحلول والإصلاحات في الجلسات الانتخابية! وفي حال طرحها فإن تنفيذها على أرض الواقع يكون أقرب إلى الخيال.

مؤخراً.. وللأسف جاءت جائحة كورونا/كوفيد١٩ لِتُسجل للعراق أسوأ أداءٍ اقتصادي منذ عام 2003! نتيجة لتداعيات الجائحة التي تمثلّت في الإغلاقات الشاملة التي شهدها العراق والعالم، وتدنّي إنتاج النفط وتصديره وانهيار أسعاره، إلى جانب أعداد الإصابات المرتفعة التي شهدتها العراق  بهذا الفيروس.

وقد أشار تقرير المعهد الدولي أن ميزان الحساب الجاري قد تحول من فائض في 2019 إلى عجز في 2020، كما انخفض الاحتياطي المالي للدولة تأثراً بهذه الجائحة، وفي مشهد آخر يتوقع المعهد أن تشهد البلاد نمواً اقتصادياً محدوداً خلال العامين المقبلين، يتراوح بين 1.6 في المائة في 2021 و3.1 في المائة في 2022. وقد يعود التحسن المتوقع إلى إمكانية زيادة الصادرات النفطية وتحسن الأسعار، قياساً بعام 2020.

الورقة البيضاء

خطوةُ إصلاحاتٍ اقتصادية قامت بها الحكومة العراقية لتجاوز هذه الأزمة من أجل تحقيق النمو المستدام على المدى المتوسط تتمثل في برنامج وطني أطلقت عليه “الورقة البيضاء” لمعالجة المعوقات وهي كما يلي:

الأولى: معالجة المعوقات الشاملة التي تعترض التنويع الذي يقوده القطاع الخاص من خلال الاستدامة المالية والحوكمة الاقتصادية، وإصلاحات القطاع المالي، وإصلاحات بيئة الأعمال، وتحسين محصلات رأس المال البشري، فضلاً عن إصلاحات الحماية الاجتماعية ونظام العمل

الثانية: تحسين الحوكمة وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في قطاعات إنتاجية مختارة مثل الزراعة والصناعات الغذائية والكهرباء والغاز.

فأين الدولة على مدى ٢٠ عاماً من استغلال ثرواتها ومواردها الطبيعية في تأسيس البُنى التحتية الضرورية لقطاعات النفط والغاز والكهرباء بدلاً من ترك العراق ساحة لتنافس الدول الكبرى عليها وضياع جميع ثرواتها؟

ونعود لنسأل مرة أخرى! هل هذه الورقة البيضاء والانتخابات البرلمانية القادمة قد تكون بداية البداية لعراق جديد؟